من ماردين «الشهادة» إلى ماردين «القداسة»
يوسف دردريان

باحث في شؤون الشرق الأوسط والقوقاز

Friday, 26-Sep-2025 05:56

لم تكن ماردين في موعد مع الموت والقتل والتهجير كما أرادها التركي العثماني، بل جميع المدن الأرمينية التي كانت تخضع إلى احتلال السلطنة العثمانية.

فجميع الولايات الأرمينية السبع التي كانت محتلة، شهدت المصير عينه من اضطهاد وقتل وإبادة وترحيل. أمّا ماردين، فلم تكتسب فقط وسام الشهادة كما باقي المدن الأرمينية، بل اكتسبت أيضاً وسام القداسة.

 

ففي 15 نيسان 1869 وُلِد شكر الله مالويان في ماردين، أي القديس الشهيد المطران أغناطيوس مالويان، وفي العام عينه في 20 من نيسان نالَ سرّ العماد والتثبيت. من عام 1883 إلى 1888 تتلمذ في دير سيدة بزمار. رُسِّم كاهناً باسم أغناطيوس في 6 آب 1896 (يوم عيد الرب)، فمرشداً روحياً في دير سيدة بزمار إلى خادم في رعايا مصر بين 1898 و1904 في الإسكندرية والقاهرة. أمين سرّ بطريركي في القسطنطينية في عام 1904-1905، ومن ثم عاد إلى ماردين سنة 1910. في 22 تشرين الأول سُمّيَ أسقفاً بوضع يَد البطريرك بولس بطرس الثالث عشر طرزيان، فأصبح رئيس أساقفة ماردين.

 

إنتقل الأسقف الشهيد إلى ماردين نهاية عام 1912، وفي آذار 1913 إلتقى الأسقف الشهيد الحبر الأعظم بيوس العاشر في روما حيث كان يتلقّى العلاج.

 

كانت ماردين تلك المدينة الجميلة التي تتربّع على جبل، وكان الشعراء يتغنَّون بجمالها الطبيعي. كانت تمتاز أيضاً بتنوّع كنائسها ومساجدها ومدارسها ، وزراعتها وجمال طبيعتها، إذ أعطاها هذا الموقع تميّزاً خاصاً. وكان الماردينيّون يعيشون حياة عزيزة وكريمة وبسلام في ما بينهم، وكانت حركة المطران مالويان بالحياة لجهة بناء المدارس والدعوة إلى السلام والحب في ما بين أبناء رعيّته.

 

الأول من آب 1914، الحرب العالمية الأولى التي قلبت كل هذا الواقع رأساً على عقب، إذ كان مالويان يعمل للتخفيف عن المظلومين والفقراء. وتقلّد مالويان في 20 نيسان 1915، أي قبل 4 أيام من الإبادة الأرمينية الكبرى الذي ذهب ضحيّتها أكثر من مليون ونصف المليون شهيد أرمني، وسُلخوا من أرضهم، وساماً بفرمان سلطاني.

 

عام 1915، القرار والتنفيذ اتُخذا. قامت السلطنة العثمانية المجرمة بإبادة الشعب الأرمني المتواجد على أرضه في كليكيا، فقصص ماردين مشابهة لقصص باقي الولايات الأرمينية من فان إلى أرزروم إلى خاربيرت وقبلهم أضنة.

 

فالوسام الذي مُنح للمطران مالويان لم يكن كافياً وسيرة حياته وعمله للصالح العام في الدولة العثمانية من قدوم الوحوش إليه في 30 نيسان 1915، أي بعد 10 أيام فقط على منحه الوسام من السلطان التركي. جاؤوا إليه بحجة تفتيش الكنيسة ومصادرة وثائقه ومحفوظاته بتُهمِ باطلة كاذبة، إذ كان المطران مالويان يجابههم بكل إيمان ويضحض أكاذيبهم وافتراءاتهم.

 

الإصرار العثماني المجرم في هذا الوقت وتعطّشه للقتل والدماء جوبها بالشهيد القديس مالويان، الذي تسلّح بإيمان لا يتزعزع ينقل الجبال من مكانها، فقد دفعه إيمانه وحرصه على رعيّته أن يتقبّل الشهادة بفخر وفرح عظيم، لأنّ العرس السماوي الذي كان بانتظاره مع أبناء رعيّته وجميع الشهداء الأرمن، كان أسمى من كل مذابح الوحوش البشرية العثمانية.

 

تهاوت كل ادّعاءات وافتراءات العثمانيِّين المشكوكة بالشر والحقد، إن لجهة حماية الثوار أو تخزين السلاح أمام صلابة الحقيقة وبطولة القديس بالتعبير الصادق، إذ قال لهم: «فتشوا ما شئتُم من كنائس وأديرة وبيوت رعيّتي، وإذا وجدتم شيئاً افعلوا ما شئتم». لكن كل ذلك لم يردع للحقيقة الصارخة والخطرة الجاري تنفيذها، لتصفية وسلخ الأرمن من أرضهم واحتلالها إلى يومنا هذا.

 

وصل الصلف بالمحتل المجرم أن يطلب من مالويان أن ينكر دينه، وهذا ما لم يفعله لآخر لحظة وكلمة ونَفَس في حياته. والعبرة لِمَن اعتبر في قصة حياة المطران الشهيد القديس مالويان، أنّ العيش قي ظل وتحت كنف الإحتلال هو ذُلّ للنفس الإنسانية، فثقافة الحياة عند المسيحي لا تعني العمل والأكل والنوم، بل هي ثقافة نضال ومقاومة للظلم والجور في أي مكان وزمان.

 

إنّ ربّنا يسوع المسيح خير دليل على ذلك، فاختياره للمحبة والتسامح ومساعدة الفقراء وشفاء المرضى. الأمر الذي لم يمنعه من تحمّل خطايانا وحمل صليبه وسار على درب الجلجلة وما همّه أن يُعلّق على خشبة، ليقوم ويقهر الموت في اليوم الثالث. هذه هي ثقافة المطران مالويان القديس الشهيد، هذه هي ثقافة الحياة، أن تحيا بكرامتك لا أن تموت وأنتَ حيّ.

 

نعم، هذا الإيمان نحتاجه اليوم وكل يوم، ولقد أنعم علينا الرب بشهادة وتقديس المطران أغناطيوس مالويان لنعود إلى جذورنا المسيحية الصافية النقية، لنكون سنداً لكل مظلوم ومقهور وفقير ومضطهد.

 

كم هو جميل هذا المشهد، في يوم عيد القلب الأقدس، بعدما بارك وكَسَر الخبز وناول الـ417 ماردينياً الذين كانوا يؤلّفون قافلة مالويان، حيث كان الرب يسوع بانتظارهم بالملكوت السماوي. لم يخافوا ولم يجزعوا بل كانوا مملوئين إيماناً وثباتاً وفرحاً عظيماً لا تقوى عليه أبواب الجحيم والشياطين.

 

هنيئاً للشهداء القدّيسين، هنيئاً للكنيسة الأرمينية الكاثوليكية، هنيئاً للأرمن ولكل المسيحيِّين وللعالم بتقديس المطران الشهيد أغناطيوس مالويان في 19 تشرين الأول 2025.

 

ماردين ستفرح في هذا اليوم، والشهداء ستغمرهم الغبطة، وللذين أنكروا وينكرون ما فعلوه إلى اليوم نقول لهم: ها هي ماردين الأرمينية تتقدّس بدماء أبنائها وأسقفها الذي أعاد وذكّر هذا العالم، أنّ هناك أرضاً محتلّة ارتُكِبَت فيها إبادة، لكنّ عدالة السماء أنصفتها ووضعتها بمرتبة القداسة. ففي 19 تشرين الأول 2025، ستُرفَع صورة القدّيس المطران الشهيد أغناطيوس مالويان في باحة القديس بطرس في روما الفاتيكان، فتُرفع معها القضية الأرمينية التي لا تموت بمرور الزمن. فيا له من فرح عظيم بالرب يسوع المسيح، ويا له من خزيٍ وعار على مَن ارتكب وأنكر إلى اليوم إبادة الشعب الأرمني.

 

فها هي صورة قدّيس تتكلّم وتنظر في عيون جميع العالم وتقول لهم: من ماردين مباركين باسم الرب يسوع المسيح. شكراً أيها الأخ والأب والأسقف الشهيد أغناطيوس مالويان.

الأكثر قراءة